الشكوك في صحّة الوضوء 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء السادس:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 10235


ــ[112]ــ

فإمّا أن يكون بعد الفـراغ أو في الأثنـاء فإن كان في الأثناء رجع وأتى به وبما بعده(1) وإن كان الشكّ قبل مسح الرِّجل اليسرى في غسل الوجه مثلاً أو في جزء منه .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) وذلك للنص ، وهو صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «إذا كنت قاعداً على وضـوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال اُخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه» الحديث (1) حيث دلّت على وجوب العود إلى الجزء المشكوك فيه في الوضوء ما دام لم يفرغ عنه . ولعل هذه الصحيحة هي مستند المجمعين في المقام ، وذلك لأن المسألة وإن كانت اتفاقية ولم ينقل فيها خلاف إلاّ أنا نطمئن أو نظن قويّاً ولا أقل أنا نحتمل ولو في جملة منهم أنهم قد اعتمدوا على هذه الصحيحة في المقام ، ومعه لا يكون الإجماع تعبدياً بوجه . وهذا كله ظاهر لا كلام فيه .

   وإنما الكلام في معارضة هذه الصحيحة بموثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه»(2) حيث قالوا بدلالتها على أنه إذا شك في جزء من الوضوء وقد دخل في غيره من الأجزاء فليس شكه بشيء ، وعليه فتتعارض هذه الموثقة مع الصحيحة المتقدِّمة ، ومقتضى الجمع العـرفي حمل الصحيحة على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 469 / أبواب الوضوء ب 42 ح 1 .

(2) الوسائل 1 : 469 / أبواب الوضوء ب 42 ح 2 . وهذه الرواية معتبرة وإن كان في سندها أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد وهو من الذين لم يرد فيهم توثيق في كتب الرِّجال ، وذلك لأن للشيخ أبي جعفر الطوسي (قدس سره) [ في الفهرست : 156 ] طريقاً صحيحاً آخر إلى جميع روايات محمّد بن الحسن بن الوليد والد أحمد ، فكل ما يروي الشيخ (قدس سره) عن ابن الوليد بواسطة ابنه أحمد تصبح معتبرة .

ــ[113]ــ

استحباب العود والإتيان بالمشكوك فيه إلاّ أن الإجماع المتقدِّم ذكره مانع عن ذلك ولأجله تحمل الموثقة على التجاوز عن الوضوء أو على محمل آخر ، فالأخذ بالصحيحة إنما هو لأجل الإجماع لا لأنها على طبق القاعدة هذا .

   ولكن هذا الكلام مما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن الإجماع المتقدّم ذكره إجماع مدركي وليس إجماعاً تعبديّاً كما مر ، والصحيحة وردت على طبق القاعدة لا على خلافها ، بيان ذلك : أن الضمير في الموثقة في قوله (عليه السلام) : «في غيره» إما ظاهر في الرجوع إلى الوضوء وإما أنه مجمل ، لأن الوضوء أقرب إلى الضمير من كلمة «شيء» ، ومعناه أنه إذا شككت في أمر من اُمور الوضوء بعدما خرجت عن الوضوء ودخلت في غيره من الصلاة أو غيرها فشكك ليس بشيء . فالموثقة غير منافية للصحيحة ولم تدل على عدم الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء .

   ودعوى ان كلمة «شيء» أصل و «من الوضوء» تابع لأنه جار ومجرور والضمير يرجع إلى الأصل والمتبوع لا إلى التابع ، ممّا لا أساس له في شيء من قواعد اللغة العربية ، لأن المعتبر هو الظهور العرفي ، ولا ينبغي الإشكال في أن رجوعه إلى الأقرب أظهر ولو كان تابعاً ، وعليه فلا موجب لحمل الصحيحة على الاستحباب وإنما هي على طبق القاعدة .

  وأما إذا تنازلنا عنه ولم ندع ظهور الضمير في رجوعه إلى الوضوء فلا أقل من إجماله ، ومعه أيضاً لا موجب لرفع اليد عن ظهور الصحيحة لأنه حجّة ، والحجّة لا يرفع اليد عنها إلاّ بما هو أظهر منها لا بالمجمل كما لا يخفى ، بل ظهور تلك الصحيحة يرفع الإبهام والإجمال عن مرجع الضمير في الموثقة ، لما قدمناه في مباحث العموم والخصوص من أن العام إذا خصص بمنفصل مجمل ودار الأمر بين التخصيص والتخصّص كان العام بظهوره مفسِّراً لإجمال الدليل المنفصل وموجباً لحمله على التخصّص (1) ، كما إذا ورد «أكرم العلماء» ثمّ ورد منفصلاً «لا تكرم زيداً» ودار الأمر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 242 .

ــ[114]ــ

فيه بين زيد العالم وزيد الجاهل ، فإن ظهور العام في العموم لما كان حجّة ولم تقم على خلافه حجّة أقوى يكون متبعاً ، ولازمه حمل الدليل المنفصل على التخصيص «لزيد الجاهل» لأن الأدلّة اللفظية كما أنها تعتبر في مداليلها المطابقية كذلك تعتبر في مداليلها الالتزامية لا محالة .

   وعليه فظهور الصحيحة في عدم جريان قاعدة التجـاوز عند الشكّ في أثناء الوضوء حيث لم يزاحمه مانع أقوى يتبع ، ولازمه رجوع الضمير في قوله (عليه السلام) : «في غيره» في الموثقة إلى الوضوء لا إلى كلمة «شيء» هذا كله . على أن في نفس الموثقة قرينة على رجوع الضمير إلى الوضوء ، وهو ذيلها أعني قوله (عليه السلام) : «وإنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» فإن هذا التعبير أعني الكون في شيء وعدم التجاوز عنه حين الشك فيه إنما يصح إطلاقه فيما إذا كان شيء مركب قد شك في جزء منه ولم يتجاوز عن ذلك المركب وهو ظاهره العرفي ، نعم لو كان عبر بقوله : إنما الشك في شيء لم يجزه ، لم يكن له هذا الظهور ، ولكن تعبيره بالكون في شيء مع عدم التجاوز عنه مع الشك مما لا إشكال في ظهوره في إرادة الشيء المركب من عدّة أجزاء قد شك في جزء منه قبل الفراغ عن المركب .

   فالمتحصل : أن مقتضى القرينة الخارجية ـ أعني كون ظهور العام مفسراً للإجمال في الدليل المنفصل عنه ـ والقرينة الداخلية وهي أقربية الوضوء إلى الضمير من كلمة «شيء» وذيل الموثقة يقتضيان رجوع الضمير إلى الوضوء ، ومعه لا موجب لحمل الصحيحة على خلاف ظاهرها لعدم التنافي بينها وبين الموثقة ، كما أن الصحيحة واردة على طبق القاعدة لا أن العمل بها على خلاف القاعدة وإنما ثبت بالإجماع .

    بقي هنا شيء

   وهو أ نّا إن خصّصنا جريان قاعدة التجاوز بخصوص الصلاة دون غيرها من المركّبات ، فلا إشكال حينئذ في الأخذ باطلاق ذيل الموثقة الذي دلّ على عدم جريان قاعدة التجاوز مع عدم التجاوز عن المركب ، حيث قال : «وإنما الشك في شيء لم

ــ[115]ــ

تجزه» فمع التجاوز عنه لا يعتني بالشك لا قبل التجاوز عن المركب ، إلاّ أنا خرجنا عنه في مورد واحد وهو باب الصلاة لما ورد فيها من أنه لا يعتني بالشك في التكبيرة أو القراءة بعدما دخل في الركوع ، ولا فيه بعدما دخل في السجود وهكذا (1) فاطلاق الموثقة متبع في غير باب الصلاة .

   وأمّا إذا عمّمنا القاعدة لجميع المركبات صلاة كانت أو غيرها لمثل قوله (عليه السلام) في بعض رواياتها : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء»(2) وكل شيء ممّا قد مضى وشككت فيه فأمضه كما هو (3) فيشكل الأمر في إطلاق ذيل الموثقة وأنه ما معنى لقوله (عليه السلام) : وإنما الشك في شيء لم تجزه . مع الالتزام بجريان قاعدة التجاوز في جميع الموارد عند الشك في جزء بعد الدخول في جزء آخر ، لأنه لا مورد له حينئذ إلاّ الوضوء فلا معنى لإطلاق الذيل بلحاظ مورد واحد وهو الوضوء ، وأما في غيره فتتعارض الموثقة مع ما دل على جريان القاعدة في غير الوضوء .

   فهذه قرينة على رجوع الضمير في قوله : «دخلت في غيره» إلى الشيء لا إلى الوضوء ، ومقتضاه جريان القاعدة في الوضوء أيضاً ، فان المراد بالشيء هو الجزء ويصح إطلاق الذيل إلاّ أن الموثقة حينئذ معارضة مع صحيحة زرارة المتقدّمة ومقتضى الجمع العرفي بينهما حمل الصحيحة على الاستحباب ، إلاّ أنا ارتكبنا خلاف القاعدة بحمل الصحيحة على الوجوب بقرينة الإجماع .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 237 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 23 ح 1 .

(2) الواردة في صحيحة زرارة قال في ذيلها : «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء»  الوسائل 8 : 237 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة  ب 23 ح 1 .

(3) وهي موثقة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «كل ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» الوسائل8: 237/  أبواب الخلل الواقع في الصلاة  ب 23 ح 3 . ونحوها صحيحة إسماعيل بن جابر ، قال أبو جعفر (عليه السلام) : «إن شك في الركوع بعدما سجد فليمض ، إلى أن قال : كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» . الوسائل 6 : 317 / أبواب الركوع ب 13 ح 4 .

ــ[116]ــ

   ولكن هذه الشبهة تندفع بان الذيل إما لا إطلاق له أصلاً وإما أن إطلاقه مقيّد وتوضيح ذلك : أن الرواية إنما سيقت لبيان عدم اعتبار الشك في الوضوء بعد الدخول في غير الوضوء على ما بيّناه آنفاً ، ومفهومه وإن كان هو لزوم الاعتناء بالشك إذا كان قبل التجاوز والفراغ عن الوضوء إلاّ أنه خارج عن محطّ نظره (عليه السلام) لأنها سيقت لبيان عدم الاعتناء بالشك بعد الوضوء ، والذيل تصريح بالمفهوم المستفاد من الصدر ، وقد ذكرنا أن المفهوم ممّا ليس الإمام (عليه السلام) بصدد بيانه ، فالتصريح به أيضاً خارج عما هو (عليه السلام) بصدد بيانه فلا إطلاق له ، لعدم كون المتكلم بصدد البيان من تلك الجهة ، وعليه فالذيل كالصدر مختص بالوضوء ولا منافاة في البين .

   ثمّ على تقدير تسليم أن الإمام (عليه السلام) كما أنه بصدد البيان من ناحية منطوق الرواية وهو عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ عن الوضوء ، كذلك بصدد البيان من ناحية المفهوم المصرح به في الذيل وهو لزوم الاعتناء به ـ أي بالشك إذا كان قبل التجاوز عن الشيء ـ فلا مناص من تقييده ، وهذا لأن مقتضى هذا الإطلاق لزوم الاعتناء بالشك ما دام لم يتجاوز عن المشكوك فيه ، سواء تجاوز عن محل المشكوك بالدخول في غيره أم لم يتجاوز عن محله ولم يدخل في شيء آخر ، حيث إن التجاوز قد يكون تجاوزاً عن الشيء ـ كالوضوء الذي يشك في جزئه أو شرطه ـ من غير الدخول في غيره أي مع بقاء محله ، واُخرى يتحقق التجاوز بالدخول في الغير ـ أي بتجاوز محله ـ وحينئذ يقيّد إطلاق الذيل بما دلّ على اعتبار الدخول في الغير في عدم الاعتناء بالشك في غير الوضوء من المقامات ، كما في صدر الموثقة وغيره ، وبهذا ترتفع المعارضة بين قوله (عليه السلام) : «وإنما الشك» الخ ، وبين ما دلّ على جريان القاعدة في غير الوضوء .

   والنتيجة أن الشك إذا كان بعد الفراغ عن العمل فلا كلام في عدم الاعتناء به ، وأما إذا شك في أثناء العمل فيعتنى به في الوضوء مطلقاً بمقتضى صحيحة زرارة وغيرها وأما في غير الوضوء فأيضاً يعتنى به إذا لم يتحقق التجاوز بالدخول في الغير بمقتضى ذيل الموثقة ، وأما إذا تجاوز عن محله بالدخول في غيره فلا يعتنى به أيضاً بمقتضى ما

ــ[117]ــ

وإن كان بعد الفراغ في غير الجزء الأخير بنى على الصحّة لقاعدة الفراغ ، وكذا إن كان الشك في الجزء الأخير إن كان بعد الدخول في عمل آخر أو كان بعد ما جلس طويلاً ((1)) أو كان بعد القيام عن محل الوضوء ، وإن كان قبل ذلك أتى به إن لم تفت الموالاة وإلاّ استأنف ((2)) (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دلّ على عدم لزوم الاعتناء بالشك بعد المضي عنه . وعلى الجملة يختص الذيل بما إذا شك في شيء وتجاوز عنه .

    الشكّ في الفراغ وصوره

   (1) صور الشك بعد الفراغ ثلاث :

    الصورة الاُولى :

   ما إذا شك بعد الفراغ في صحّة عمله وفساده مع عدم إمكان التدارك لفوات الموالاة .

   والصحيح جريان القاعدة حينئذ لتحقق الفراغ الحقيقي المعتبر في جريانها ، حيث إن المراد من الفراغ أو المضي أو التجاوز عن العمل ليس هو الفراغ أو التجاوز أو المضي عن العمل الصحيح ، إذ مع إحراز صحّة العمل المفروغ عنه لا يعقل الشك في صحّته ، فالمراد من تلك العناوين المضي عن ذات العمل الجامع بين الصحيح والفاسد أو الفراغ أو التجاوز عنه ، وحيث إن المفروض أنه فرغ عن العمل ومضى ذلك العمل وقد تجاوز عنه ـ لعدم إمكان التدارك وهو موجب لتحقق الفراغ بحسب الصدق العرفي ـ ويشك في صحّته وفساده فلا محالة تجري فيه القاعدة . ومقتضاها الحكم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بمقدار تفوت به الموالاة فيه وفيما قبله وبعده إلاّ إذا دخل في عمل مترتب عليه كالصلاة ونحوها .

(2) لا يبعد عدم وجوبه .

ــ[118]ــ

بصحّته ، والأخبار الواردة في اعتبارها مطبقة الانطباق على المقام ، لما عرفته من أن المراد بالتجاوز والمضي والفراغ وغيرها من العناوين الواردة في الروايات إنما هو التجاوز والمضي والفراغ عن ذات العمل لا عن العمل الصحيح ، وحيث إنه لا يتمكن من تداركه فيصدق أنه في حالة اُخرى غير حالة الوضوء وأنه شك بعدما يتوضأ وأنه شك بعد التجاوز عن المركّب وهكذا ، وهو المورد المتيقن من موارد قاعدة الفراغ لأنه يشكّ في صحّة ما مضى من عمله لفـرض عدم إمكـان تدارك الجزء المشـكوك فيه لفوات الموالاة .

   وهذا من غير فرق بين أن يشك في شيء من الأجزاء السابقة على الجزء الأخير وبين أن يشك في إتيانه بالعمل الصحيح من جهة الشك في جزئه الأخير ، لأن المدار إنما هو على صدق الفراغ وقد عرفت تحققه بعد عدم إمكان التدارك بفوات الموالاة ، وإن ذكر في المتن أنه إذا شك في الجزء الأخير وفاتت الموالاة استأنف العمل ، وذكرنا في التعليقة أن عدم وجوب الاستئناف غير بعيد ، إلاّ أنه إنما هو بلحاظ المتن ، وأما الظاهر المستفاد من أخبار القاعدة فهو جريانها في المقام كما مر .

    الصورة الثانية :

   ما إذا شك بعد العمل في شيء من أجزائه غير الجزء الأخير مع عدم فوات الموالاة وإمكان التدارك ، فالمعروف المشهور بين أصحابنا جريان القاعدة في هذه الصورة أيضاً .

   والظاهر أنه هو الصحيح ، وذلك لمعتبرة بكير بن أعين الدالّة على عدم اعتبار شكّه فيما إذا شك بعدما يتوضأ ، لأنه حينما يتوضأ أذكر منه حينما يشك (1) حيث إن «يتوضّأ» فعل مضارع ، وظاهر المضارع هو الاشتغال والتلبس بالفعل ما دام لم يدخل عليه «سين» أو «سوف» وعليه فظاهر المعتبرة أنه إذا شك بعدما يتوضّأ ـ أي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 7 .

ــ[119]ــ

بعد اشتغاله بالوضوء وبعد فراغه عنه ـ لم يعتن بشكه ، والمفروض في هذه الصورة أنه يشك بعدما يتوضأ أي بعد فراغه واشتغاله فهو مورد للقاعدة وذلك لتحقق الفراغ المعتبر في جريانها . وهذا لا لمجرّد البناء على الفراغ كما ربّما يتوهم في المقام ، بل لتحقق الفراغ بالنظر العرفي كما تقدّم ، فإن الإتيان بالجزء الأخير محقّق عرفي لصدق التجاوز والفراغ ومعه لا مجال للتأمّل في جريان القاعدة كما لا يخفى .

   وأمّا ما ورد في صدر موثقة ابن أبي يعفور من قوله (عليه السلام) : «وقد دخلت في غيره»(1) فظاهره وإن كان هو اعتبار الدخول في غير الوضوء في جريان القاعدة لأ نّا ذكرنا أن الضمير في «غيره» يرجع إلى الوضوء إلاّ أنه غير مناف للمعتبرة المتقدّمة الدالّة على جريان القاعدة إذا شك بعدما يتوضأ من دون اعتبار الدخول في الغير .

   والوجه في عدم منافاتهما أن المراد من غيره في هذه الموثقة بقرينة معتبرة بكير هو اعتبار الفراغ عن الوضوء وكون شكّه بعدما يتوضأ بأن يدخل في حالة هي غير حالة الاشتغال بالوضوء ، لا أن المراد به هو الغير المترتب على الوضوء شرعاً ، وذلك فإن الغير الذي يعتبر الدخول فيه في جريان القاعدة في الوضوء ليس هو الغير الذي اعتبر الدخول فيه في جريان القاعدة في باب الصلاة ، لأن المراد به في باب الصلاة هناك هو الغير المرتب على المشـكوك فيه شرعاً كما مثـل به هو (عليه السلام) من الشك في الركوع بعدما سجد وهكذا .

   وأمّا في المقام فالمراد به هو الدخول في حالة اُخرى غير حالة الوضوء ، فإن به تحقّق عنوان التجاوز ويصدق عنوان الشك بعدما يتوضأ ، وذلك لمعتبرة بكير والقطع الخارجي بعدم اعتبار الدخول في مثل الصلاة في جريان القاعدة في الوضوء ، لأنها تجري فيما إذا شك في وضوئه بعد الفراغ منه ولو كان داخلاً في عمل آخر من الكتابة والأكل ونحوهما هذا كلّه . مضافاً إلى ما صرح به (عليه السلام) في ذيل موثقة ابن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمت في صدر المسألة ص 112 .

ــ[120]ــ

أبي يعفور من حصره الشك المعتبر بما إذا كان في شيء لم تجزه ، وقد أسلفنا أن ظاهره إرادة الشك في شيء من المركب قبل إتمامه والخروج عنه ، فإذا خرج عنه فلا يعتني بشكه بمقتضى الحصر ، فإن الظاهر أن هذه الجملة لم ترد لبيان حكم جديد وإنما وردت لبيان المراد بالجملة الاُولى المذكورة في صدر الموثقة ، أعني قوله (عليه السلام) : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره... » فالمتحصل منها أن الشك لا يعتبر بعد الخروج عن الاشتغال بالعمل وعدم صدق أنه يتوضأ ، فالموثقة غير منافية لمعتبرة بكير .

   وأما ما ورد في صحيحة زرارة من قوله (عليه السلام) : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال اُخرى في الصلاة أو في غيرها... » (1) فهو أيضاً كالموثقة غير مناف للمعتبرة ، لأن الظاهر أن تلك الجملة إنما وردت لبيان المفهوم المستفاد من صدر الصحيحة ومعناها أنه ما دام مشتغلاً بالوضوء يعتني بشكّه وإذا صدق أنه شكّ بعدما يتوضأ تجري فيه قاعدة الفراغ ، فقد اُدي معنى واحد بعبارات مختلفة فتارة عبر عنه بالدخول في غيره ، وثانياً بالقيام منه ، وثالثاً بالدخول في صلاة ونحوها . والجامع أن يدخل في حالة اُخرى غير حالة الاشتغال بالوضوء ، لأنه المحقق لصدق عنوان الشك بعدما يتوضأ ، فلا تنافي بين الأخبار .

    الصورة الثالثة :

   ما إذا شك في صحّة وضوئه وفساده من جهة الشك في أنه أتى بالجزء الأخير أم لم يأت به مع إمكان التدارك وعدم فوات الموالاة . والتحقيق أنه يعتني بالشك حينئذ ولا تجري فيها قاعدة الفراغ ، وذلك لأن جريان القاعدة في هذه الصور يبتني على أحد اُمور ثلاثة :

   فإمّا أن يقال بأن اليقين بالفراغ حجّة بحدوثه وإن ارتفع بعد ذلك بالشك وهو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمت في صدر المسألة ص 112 .

 
 

ــ[121]ــ

المعبر عنه بقاعدة اليقين ، وحيث إنه قد تيقن بفراغه عن العمل ولو آناً ما ثمّ شك في مطابقة يقينه للواقع وعدمها أي شك في إتيانه بالجزء الأخير وعدمه فهو متيقن من فراغه فتجري في حقه قاعدة الفراغ .

   أو يقال بأن ظاهر حال المتيقن مطابقة يقينه للواقع ، فالظن النوعي حاصل بفراغه ومطابقة يقينه بالفراغ للواقع ، فيحكم بتحقق الفراغ من جهة قيام الأمارة عليه ، وهو الظن النوعي بمطابقة يقين المتيقن للواقع .

   أو يقال إن المراد بالفراغ المعتبر في جريان القاعدة إنما هو الفراغ الاعتقادي البنائي ، لعدم إمكان إرادة الفراغ الحقيقي منه لعدم إمكان الشك في صحّة العمل وفساده مع تحقق الفراغ الحقيقي عن العمل ، ولا الفراغ الادعائي لأنه يتحقق بالإتيان بمعظم الأجزاء ولا دليل على كفاية الإتيان بمعظم الأجزاء في جريان القاعدة ، بل الدليل على عدم كفايته موجود وهو صحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة على لزوم الاعتناء بالشك ما دام لم يقم عن وضوئه وإن أتى بمعظم أجزائه ، فيتعيّن إرادة الفراغ الاعتقادي والبنائي ، وهذا لا لحجيّة اليقين بحدوثه ولا للأمارة على تحقق الفراغ بل لقيام الدليل على كفاية الفراغ الاعتقادي في جريان القاعدة كما عرفت ، وحيث إن المكلّف معتقد بفراغه وكان بانياً عليه فتجري القاعدة في حقه لا محالة .

   وشيء من هذه الوجوه مما لا يمكن المساعدة عليه . أما الوجه الأوّل فلما أسلفناه في بحث الاستصحاب من أنه لا دلالة لشيء من الأخبار على حجيّة قاعدة اليقين وأنها إنما تدلّ على حجيّة الاستصحاب فحسب(1) ، ولا يعتبر فيه تقدّم اليقين على الشك بل المدار على تقدّم المتيقن على المشكوك كانت صفة اليقين حاصلة قبل الشك أم بعده أم متقارنة معه .

   وأمّا الوجه الثاني فلأن الظن النوعي وإن كان حاصلاً بمطابقة يقين المتيقن مع الواقع وهو أمارة على الفراغ إلاّ أن الكلام في الدليل على اعتباره ، ولا دليل على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 3 : 245 .

ــ[122]ــ

اعتبار الظن الشخصي بالفراغ والمطابقة فضلاً عن الظن النوعي بالفراغ .

   وأمّا الوجه الثالث فلأنه مبني على إرادة الفراغ عن العمل الصحيح والأمر حينئذ كما اُفيد ، إلاّ أنه ظهر من مطاوي ما ذكرناه أن المراد بالفراغ هو الفراغ الحقيقي بحسب الصدق العرفي ولكن متعلقه ليس هو العمل الصحيح بل ذات العمل الأعم من الصحيح والفاسد ، إذ لا معنى للشك في الصحّة مع الفراغ عن العمل الصحيح ، وعليه فلا وجه لدعوى اعتبار الفراغ الاعتقادي ، بل المدار على تحقق الفراغ الحقيقي بحسب الصدق العرفي عن ذات العمل الذي لا يدري أنه وقع صحيحاً أم فاسداً .

   فكلّما علم بأنه فرغ حقيقة عن ذات العمل ، كما إذا دخل في حالة اُخرى غير حالة الوضوء وصدق عليه الفراغ والتجاوز عرفاً ، إما لأنه أتى بالجزء الأخير وشك في الأجزاء السابقة عليه ، لأنّ الإتيان بالجزء الأخير في مثل الوضوء والصلاة وغيرهما موجب لصدق المضي والتجاوز عن العمل ، وإما لعدم إمكان التدارك لفوات الموالاة لأنه أيضاً محقق لصدق المضي والتجاوز والفراغ عرفاً كما مرّ في الصورة الاُولى والثانية ، أمكن التمسّك بالقاعدة .

   وأمّا إذا  كان التدارك ممكناً لعدم فوات الموالاة، ولم يحرز الإتيان بالجزء الأخير بل شك في أنه أتى به أم لا ، فلا يمكن إحراز الفراغ ، لأنه حال شكّه لا يدري أنه في حالة اُخرى غير حالة الوضوء أو أنه في حالة الوضوء ، حيث إنه إذا لم يكن آتياً بالجزء الأخير فهو في حالة الوضوء لعدم فوات الموالاة وإن أتى به واقعاً فهو في حالة اُخرى وقد تحقق الفراغ . ومع الشك في التجاوز والفراغ لا يمكن التمسّك بقاعدة الفراغ ، لأنه شبهة مصداقية للقاعدة ، ولا يمكن إجراؤها فيها ولو قلنا بجواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة ، وذلك لأنه إنما هو في الشبهة المصداقية للمخصص المنفصل ، وأما الشبهة المصداقيّة للمخصص المتصل فلم يقل أحد بجواز التمسّك فيها بالعام والأمر في المقام كذلك ، لأن القاعدة مقيّدة بالتجاوز والفراغ من الابتداء وهما مشكوكان على الفرض ومعه لا مجرى للقاعدة كما مر ، بل مقتضى الاستصحاب حينئذ أنه لم ينتقل من حالته الأوليّة إلى غيرها وأنه لم يفرغ من عمله ، ومقتضى ذلك وجوب الاعتناء




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net