السابع : أن تكون الأرض قابلة للزرع ولو بالعلاج . فلو كانت سبخة لا يمكن الانتقاع بها ، أو كان يستولي عليها الماء قبل أوان إدراك الحاصل أو نحو ذلك ، أو لم يكن هناك ماء للزراعة ولم يمكن الاكتفاء بالغيث ، بطل(2) .
الثامن : تعيين المزروع من الحنطة والشعير وغيرهما (3) مع اختلاف الأغراض فيه ، فمع عدمه يبطل ، إلاّ أن يكون هناك انصراف يوجب التعيين ، أو كان مرادهما التعميم (4) وحينئذ فيتخيّر الزارع بين أنواعه .
التاسع : تعيين الأرض (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــ (2) كما هو ظاهر . فإنّ مفهوم المزارعة متقوِّم بإمكان تحقّق الزرع وقابلية الأرض له ، وخروج شيء منها يكون بينهما على ما اتفقا عليه من النسبة .
(3) في قبال قصد كل منهما نوعاً غير ما قصده الآخر ، إذ معه لا يتحقق مفهوم العقد ، وإلاّ فلا دليل على اعتبار تعيين النوع في حدّ ذاته ، كما يشهد له قوله (قدس سره) بعد هذا : أو كان مرادهما التعميم ، فإنه لولا ما ذكرناه لكان منافياً لما ذكره (قدس سره) من اعتبار تعيين المزروع .
(4) فإنه نوع من التعيين بالمعنى الذي ذكرناه .
(5) وتفصيل الكلام في المقام أنه لا ينبغي الإشكال في صحة المزارعة ، فيما إذا
ــ[231]ــ
كانت الأرض معلومة معيّنة .
وكذا الحال فيما لو كانت كليّاً في معين ، فإنه لا قصور في أدلّة المزارعة عن شموله . فقد ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس»(1) فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين العقد الواقع على العين الخارجية والواقع على الكلي في معين .
بل الإطلاقات شاملة للعقد الواقع على الكلي في الذمة ، إذ يصح فيه أن يقال : إنّ المالك زارع العامل على أن يكون ما يخرجه الله بينهما .
نعم ، لو زارعه على إحدى القطعتين المختلفتين في الصفات ، بحيث تكون المزارعة في إحداهما أيسر وأسهل من الاُخرى، فقد يقال ـ كما ذهب إليه الماتن (قدس سره) ـ بالبطلان ، نظراً للزوم الغرر .
إلاّ أنّ للمناقشة فيه مجالاً واسعاً . فإنه لا وجه للحكم بالبطلان فيه ، بعد البناء على صحة المزارعة في الكلي في المعين ، فإنه من مصاديقه ، فإنّ عنوان إحدى هاتين القطعتين كلّي قابل للانطباق على كل منهما .
ودعوى لزوم الغرر .
مدفوعة بأنه إنما يكون فيما إذا كان العوض أمراً معلوماً ومعيناً ، كما لو باعه أحد الثوبين المختلفين من حيث الجنس والوصف بخمسة دنانير ، حيث لا يعلم المشتري ما يملكه بإزاء ما يدفعه ثمناً ، فلا يتمّ في مثل المقام حيث يكون العوض هو النسبة المعينة من الحاصل من الأرض التي يعمل فيها ، فإنه لا غرر فيه على الإطلاق ، ولا يكون إقدام العامل عليه إقداماً غررياً ، فإنه سيأخذ الحصّة المعينة مما أخرجه الله تبارك وتعالى من الأرض . فحال العامل في هذه الصورة ، هو الحال في إقدامه على المزارعة والعمل في الأرض المعينة .
على إنك قد عرفت غير مرّة ، أنه لا دليل على اقتضاء الغرر لبطلان المعاملات بقول مطلق ، إذ المسلم منه هو بطلان البيع الغرري خاصة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل ، ج 19 كتاب المزارعة والمساقاة ، ب 8 ح 7 .
ــ[232]ــ
وعليه فإن تمّ إجماع في المقام على بطلان عقد المزارعة عند عدم تعيين الأرض فهو المستند ، وإلاّ ـ كما هو الظاهر ـ فلا وجه لاعتبار هذا الشرط .
وبعبارة اُخرى : إنّ القطعتين إذا كانتا متساويتين من حيث النسبة والحصة ، بحيث كان العقلاء يقدمون على زراعة كل منهما بتلك الحصّة من حاصلها ، فلا ينبغي الريب في صحة العقد ، إذ لا غرر فيه على المالك أو العامل ، فإنه إنما يكون مع تعيين العوض بحيث يكون مالاً معيناً معلوماً لا مع النسبة . ولا يضرّ في ذلك كون حاصل إحداهما أقلّ من الاُخرى ، بعد أن كانت كل منهما تعطي بنفس تلك النسبة التي تعطي بها الاُخرى .
وأما إذا اختلفتا من حيث النسبة ، بأن كانت إحداهما تزارع على أن يعطى للمالك النصف من الحاصل والاُخرى على ان يكون له الثلث ، فالأمر كذلك أيضاً فيما لو وقع العقد على كلي القطعتين بأقل الحصتين ـ الثلث ـ للمالك ، إذ لا غرر عليهما معاً .
فإنّ المالك إن عيّن القطعة التي تزارع على الثلث للمالك فهو ما أقدم عليه العامل وإن عيّن الاُخرى كان ذلك من جانب العامل ، حيث أخذ ما يعطى بالنصف من الحاصل للمالك بالثلث له ، فلا غرر عليه بالمرّة . وأما المالك ، فحيث إنّ الخيار في التعيين بيده ، وتطبيق الكلي على أي الفردين شاء منوط بنظره ، فلا يكون فيما يختاره خطر عليه .
نعم ، لو أقدم العامل على العقد بأكثر الحصتين للمالك احتمل الخطر عليه ، لأنه قد يختار الأرض التي تعطى بالأقل ، فيكون ضرراً عليه .
إلاّ أنّ هذا لا يقتضي البطلان ، إذ لا دليل على المنع من الغرر مطلقاً ، وإنما الدليل يختص بالبيع وما يلحق به كالإجارة للإجماع . ومن هنا فمقتضى الإطلاقات هو الحكم بالصحة .
ومعه فيكون الخيار في التعيين بيد المالك لأنّ الحقّ عليه ، لأنه الذي ملّك العامل الكلي في المعيّن . وأما العامل فهو وإن كان قد ملك كلّي العمل في إحدى القطعتين ، إلاّ أنه لا خيار له ، لأنه إنما ملك كلّي العمل في إحدى القطعتين اللتين يكون الخيار في
ــ[233]ــ
ومقدارها (1) . فلو لم يعيّنها بأنها هذه القطعة أو تلك القطعة ، أو من هذه المزرعة أو تلك ، أو لم يعيّن مقدارها، بطُل مع اختلافها، بحيث يلزم الغرر(2). نعم ، مع عدم لزومه لايبعد الصحة، كأن يقول: (مقدار جريب من هذه القطعة من الأرض) التي لا اختلاف بين أجزائها ، أو (أي مقدار شئت منها) (3) . ولا يعتبر كونها شخصية ، فلو عيّن كلياً موصوفاً على وجه يرتفع الغرر ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعيينها بيد المالك ، فهو في الحقيقة قد ملك المالك عمله فيما يختار المالك من القطعتين .
ومن هنا يظهر عدم صحة قياس مسألتنا على مسألة تعيين المدة بالأشهر والسنين ، حيث حكمنا بالبطلان نظراً لعدم شمول أدلّة اللزوم لها ، حيث يملّك المالك العامل كلّي حقّ التصرّف في الأرض ، في قبال تمليك العامل له كلّي العمل في إحدى السنتين .
(1) بلا ريب فيه . فإنّ المردد بين الأقل والأكثر غير قابل للتمليك ، لعدم التعين له في الواقع ونفس الأمر ، فلو قال المالك : (زارعتك على مقدار من الأرض) من غير تحديد لم تصحّ . فإنّ المزارعة تشتمل على حقّين ، حق المالك وحق العامل ، فلا بدّ فيها من التعيين في الواقع ، بحيث يتعلق التزام كل منهما بأمر له واقع ، وإلاّ فلا يقبل التمليك والتملك ، كما تقدّم غير مرّة .
(2) قد عرفت أنّ الغرر غير متحقّق ، وعلى فرضه فلا دليل على اقتضائه للبطلان . وأن الصحيح عدم اعتبار التعيين بالنسبة إلى أصل الأرض ، واعتبارها بالنسبة إلى المقدار .
(3) ما أفاده (قدس سره) من الصحة في المثال الأخير ، ينافي اعتباره (قدس سره) لتعيين مقدار الأرض والالتزام ببطلانها عند عدمه .
اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد به الإشارة الإجمالية إلى ما سيعيّن من قبله أو قبل العامل بعد ذلك ، بحيث يكون الاختيار بيده ، فإنه معه يرتفع محذور الإبهام وعدم التعيين الواقعي ، لكونه معلوماً في علم الله .
ــ[234]ــ
فالظاهر صحته (1) وحينئذ يتخير المالك في تعينه .
العاشر : تعيين كون البذر على أيّ منهما (2) وكذا سائر المصارف واللوازم ، إذا لم يكن هناك انصراف مغن عنه ولو بسبب التعارف .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لإطلاق أدلّة المزارعة ، على ما تقدّم بيانه مفصلاً .
(2) فإذا لم يعيّنا بطل العقد ، لانتفاء موضوع المزارعة بانتفاء البذر ، نظراً لعدم وجوب بذله على كل منهما .
وذهب بعض إلى كونه على العامل حينئذ ، لأنه المأمور بالعمل فتكون مقدماته عليه ، نظير ما يذكر في باب الإجارة من كون الخيط عند عدم التعيين على الخياط .
بل ربّما يستشكل في جعله ولو بالتعيين على المالك ، لولا الإجماع على صحته .
وذلك لصحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : سالته عن الرجل تكون له الأرض من أرض الخراج ، فيدفعها إلى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ويؤدّي خراجها ، وما كان من فضل فهو بينهما ؟ قال : «لا بأس» إلى أن قال : وسألته عن المزارعة ، فقال : «النفقة منك ، والأرض لصاحبها ، فما أخرج الله من شيء قسم على الشطر ، وكذلك أعطى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خيبر حين أتوه ، فأعطاهم إيّاها على أن يعمروها ولهم النصف مما أخرجت» (1) .
حيث إنّ المستفاد منها تقوّم المزارعة بكون البذر وغيره من النفقة على العامل ، في قبال كون الأرض من صاحبه .
ومن هنا فقد ذكر بعضهم أنه لو اشترط كون البذر على المالك ، خرج العقد عن حقيقة المزارعة ، ومن ثمّ حكم ببطلانه .
لكن الظاهر عدم تمامية شيء من الأمرين : كون البذر عند الإطلاق على العامل وبطلان العقد عند جعله على المالك .
وذلك لأن الواجب على العامل بمقتضى عقد المزارعة هو العمل خاصّة ، وأما
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل ، ج 19 كتاب المزارعة والمساقاة ، ب 10 ح 2 .
ــ[235]ــ
مقدّماته فإثبات كونها عليه أيضاً يحتاج إلى الدليل ، وهو مفقود .
فالمقام نظير ما ذكرناه في تكفين الميت ، من أنّ الواجب على المسلمين القيام بالعمل خاصة ، وأما إيجاد الموضوع وتحصيل الكفن فلا دليل على وجوبه عليهم . ومن هنا فلا يجب على أحد منهم بذله ، بل إن كان للميت مال فمنه ، وإلاّ فمن الزكاة ونحوها ، فإن لم يوجد دُفن عارياً ، إذا لم يحصل من يتبرع به عن طوع رغبته وإرادته .
ومن هنا فما نحن فيه اشبه شيء بالبناء ، حيث لا يجب على العامل إلاّ العمل بالمواد دون تحصيلها .
وصحيحة يعقوب بن شعيب وإن كانت دالّة على كون البذر من العامل وتقوّم المزارعة بذلك ، إلاّ أنه لا بدّ من رفع اليد عن ظهورها هذا وحملها على بعض المحامل ككون ذلك هو المعهود في ذلك الزمان ونحوه ، وذلك لجملة من النصوص الدالّة على عدم اعتباره من حيث فرض فيها كون البذر من غير العامل .
ففي معتبرة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال : سألته عن رجل استأجر أرضاً بألف درهم ثمّ آجر بعضها بمائتي درهم ، ثمّ قال له صاحب الأرض الذي آجره : أنا أدخل معك بما استأجرت فننفق جميعاً ، فما كان من فضل بيني وبينك ، قال : «لا بأس بذلك» (1) .
فإنه (عليه السلام) حكم بصحّة العقد ، مع كون المفروض فيها مشاركة المالك للعامل في الإنفاق عليها .
وفي صحيحة سماعة ، قال : سألته عن مزارعة المسلم المشرك ، فيكون من عند المسلم البذر والبقر وتكون الأرض والماء والخراج والعمل على العلج ، قال : «لا بأس به» (2) . حيث فرض فيها كون البذر على غير العامل صريحاً .
وأصرح من الكل خبر إبراهيم الكرخي ، قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : اُشارك العلج، فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ويكون على العلج القيام
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل ، ج 19 كتاب المزارعة والمساقاة ، ب 15 ح 2 .
(2) الوسائل ، ج 19 كتاب المزارعة والمساقاة ، ب 12 ح 1 .
|