الثانية : هل يعتبر التصدِّي للعتق أو الإطـعام مباشرةً أو يجوز التوكيل فيهما ؟
الظاهر أ نّه لاينبغي الإشكال في جواز التوكيل ، فإنّ فعل الوكيل فعل الموكّل نفسه عرفاً وينتسب إليه حقيقةً ومن غير أيّة عناية ، ويكفي في ذلك إطلاق الأدلّة بعد عدم الدليل على اعتبار المباشرة .
وقد ذكرنا في بعض مباحث المكاسب(2) أنّ الوكالة على طبق القاعدة في موردين ، وفي غيرهما يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص :
أحدهما : الاُمور الاعتباريّة بأسرها ، من البيع والهبة والطلاق والنكاح والعتق ونحوها ، فإنّ الأمر الاعتباري وإن توقّف تحقّقه على الاعتبار النفساني مع إبرازه بمـبرز ، وبهذا الاعتبار يكون فعلا ممّن صدر منه مباشرةً ، إلاّ أ نّه لكونه خفيف المؤونة يكفي في انتسابه إليه انتهاؤه إليه إمّا لمباشرته في إيجاده أو لتسبيبه فيه بتفويضه إلى غيره ، فلو وكلّ أحداً في تولّي البيع ـ مثلا ـ فاعتبره الوكيل وأبرزه خارجاً ، يُنسَب البيع حينئذ إلى الموكّل حقيقةً ومن غير أيّة عناية كما ينسب إلى الوكيل ، لأنّ البيع ليس إلاّ الاعتبار بضميمة الإبراز ، وقد
ــــــــــــــ (2) شرح العروة 31 : 497 .
ــ[387]ــ
تحقّقا معاً بفعل الوكيل مباشرةً والموكّل تسـبيباً ، فيصحّ أن يقال حقـيقةً : إنّ الموكّل باع أو أعتق أو وهب أو نحو ذلك من سائر العقود والإيقاعات ، وهذا أمر عرفي عقلائي لا حاجة فيه إلى قيام دليل عليه بالخصوص .
ثانيهما : كلّ ما هو من قبيل القبض والإقباض والأخذ والإعطاء فإنّها وإن كانت من الاُمور التكوينيّة ، إلاّ أنّها بمنزلة الاُمور الاعتباريّة في أنّ الوكالة تجري فيها بمقتضى السـيرة العـقلائيّة ، مضافاً إلى استفادة ذلك من بعض الروايات ، فلو وكّل أحداً في تسلّم ما يطلبه من الغريم فأخذه كان قبضه قبضه حقيقةً بالنظر العرفي ، فلو تلف لم يضمنه المديون بل تفرغ ذمّته بمجرّد الدفع إلى الوكيل وإن لم يصل إلى الموكّل .
وكذلك الحال في الاقباض ، فلو وكّل أحداً في أن يعطي زكاته أو ديناً آخر لزيد برئت ذمّته بمجرّد الدفع ، ونحوه ما لو باع في مكان ووكّل أحداً في أن يقبض المبيع في مكان آخر .
وبالجملة : ففي هذه الموارد يُنسَب الفعل إلى الموكّل حقيقةً ، فهو أيضاً قابض من غير أيّة عناية .
وأمّا سائر الاُمور التكوينيّة غير ما ذكر من الأكل والشرب والنوم ونحو ذلك فهي غير قابلة للتوكيل ولا يستند الفعل فيها إلى غير المباشر بوجه من الوجوه ، فلا يصحّ أن يقال : زيد نام ، فيما لو طلب من عمرو أن ينام عنه ، وهكذا الحال في سائر الأفعال .
نعم ، لا بأس بالإسناد المجازي في بعض الموارد ، كما لو أمر بضرب أحد أو قتله ، فإنّه قد يُنسَب الفعل حينئذ إلى الآمر بضرب من العناية ، وإلاّ فالفعل الخارجي غير منتسب إلى الآمر انتساباً حقيقيّاً .
وكيفما كان ، فجريان الوكالة في غير ما ذكرناه يحتاج إلى الدليل ، فإن نهض
ــ[388]ــ
كما في الحج حيث ثبت بالدليل الخاصّ جواز التوكيل فيه وأنّ حج الوكيل حجٌّ للموكّل والمستنيب فهو ، وإلاّ كما في غير مورد الحجّ فلا مجال لجريان الوكالة فيه ، فلا يصحّ التوكيل في مثل الصوم والصلاة ونحوهما ممّا هو واجب عبادي أو غير عبادي .
وعليه ، ففي مقامنا هذا ـ أعني : خصال الكفّارة ـ يجري التوكيل في اثنتين منها، وهما العتق والإطعام ، لأنّ الأوّل أمر اعتباري ، والثاني من قبيل الإقباض والإعطاء . وأمّا الثالث ـ وهو الصوم ـ فغير قابل لذلك ، لعدم الدليل عليه ، ومقتضى إطلاق الدليل صدور الصوم من المفطر مباشرةً لا من شخص آخر ، فلا يجري فيه التوكيل .
هذا تمام الكلام في التوكيل .
الجهة الثالثة : في التبرّع عن الغير ، وقد سبق أنّ الأقوال فيه ثلاثة : الجواز مطلقاً ، والمنع مطلقاً ، والتفصيل بين الصوم وغيره .
أما الجواز مطلقاً : فمبني على أمرين :
أحدهما : دعوى أنّ الكـفّارة كغـيرها من الواجبات الإلهيّة دينٌ كسائر الديون فيجري عليها حكمه .
ثانيهما : إنّ كل دين يجوز التبرّع فيه من غير إذن ولا توكيل .
وأمّا المنع مطلقاً : فيستدلّ له بأنّ ظاهر الأمر والخطاب المتوجّه إلى شخص بشيء وجوب مباشرته له ، أو مافي حكمها من التوكيل فيما يجري فيه التوكيل ، وأمّا السقوط بفعل المتبرّع فهو خلاف ظاهر الإطلاق فلا يصار إليه من غير دليل ، ولا دليل عليه في المقام .
وأمّا التفصيل : فوجهه أنّ كلّ ما يقبل التوكيل يقبل التبرّع أيضاً ، وبما أنّك عرفت قبول العتق والإطعام للتوكيل دون الصيام فالأمر بالنسبة إلى التبرّع
ــ[389]ــ
أيضاً كذلك .
والصحيح من هذه الأقوال هو القول الثاني ـ أعني : المنع المطلق ـ الذي عرفت أنّ صاحب الجواهر نسبه إلى المشهور بعد أن قوّاه ، ويظهر وجهه من تزييف القولين الآخرين .
أمّا القول بالجواز مطلقاً بدعوى أنّ حقوق الله دَين وكلّ دَين يجوز فيه التبرّع ، فهو ممنوع صغرىً وكبرىً كما تقدم التعرّض له في كتاب الصلاة(1) ، فإنّ لفظ الدَين وإن اُطلق على بعض الواجبات كالصلاة والحجّ في بعض الروايات ـ التي منها رواية الخثعمية المتضمّنة لقول النبي (صلّى الله عليه وآله) : «دَين الله أحقّ بالقضاء»(2) فأطلق لفظ الدَين على الحجّ ـ غير أنّها ضعيفة السند ، لكونها مرويّة من طرق العامّة لا من طرقنا .
نعم ، اُطلق عليه في بعض رواياتنا المعتبرة ، بل عومل معه معاملة الدين وجُعِل بمنزلته ، ولذا يخرج من الأصل كما صرّح به في بعض الأخبار ، إلاّ أ نّه لا ينبغي الشكّ في أنّ الإطلاق المزبور حتّى لو ثبت في جميع الواجبات الإلهيّة فإنّما هو مبني على ضرب من المسامحة والعناية باعتبار كونها ثابتة في الذمّة ، وإلاّ فالمنسبق من هذا اللفظ بحسب الظهور العرفي خصوص الدين المالي لا مطلق الواجب الإلهي .
ولو سلّمنا الصغرى فالكبرى ممنوعة ، إذ لم يثبت جواز التبرّع عن الغير في كلّ دين ، وإنّما ثبت ذلك في خصوص الديون الماليّة بمقتضى السيرة العقلائيّة وبعض الروايات الواردة في الموارد المتفرّقة ، مثل ما ورد من أنّ من وظائف الابن أداء دين أبيه ، وأنّ دين المؤمن العاجز عن الوفاء على الإمام يقضيه من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح العروة (كتاب الصلاة الجزء الخامس القسم الأوّل) : 237 .
(2) لاحظ صحيح مسلم 2 : 804 / 154 ، سنن البيهقي 4 : 255 .
ــ[390]ــ
الزكاة من سهم الغارمين ونحو ذلك ، وأمّا أنّ مطلق ما كان واجباً وإن عُبِّر عنه بالدين يصحّ التبرّع به عن الغير فلم يقم عليه أيّ دليل ، بل لعلّه خلاف الإجماع والضرورة في كثير من الموارد من الصلاة والصيام ونحوهما .
نعم ، ثبت ذلك في خصوص الحجّ لدى العجز فهو بمنزلة الدين ، ولذا يخرج من أصل المال كما ذكر ، وأمّا في غيره فلا ، فلم ثتبت الكبرى على إطلاقها .
وكيفما كان ، فالقول بالجواز المطلق ضعيف جدّاً .
وأمّا القول بالتفصيل ، فالمنع في الصوم جيّد ، لما عرفت من أ نّه عبادة قد خوطب المفطر بأدائها ، فسقوطها بفعل الغير بدلا عنه يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل ، ومقتضى الإطلاق العدم .
وأمّا الجواز في العتق والإطعام فمبنى كلام المحقّق على ما يظهر من كلماتهم أنّ جريان الوكالة والنيابة فيهما كما تقدّم يكشف عن عدم اعتبار المباشرة ، ومقتضى عدم اعتبارها جريان التبرّع أيضاً فيهما ، إذ لا خصوصيّة للاستنابة بعد فرض عدم اعتبار المباشرة .
ولكنّه أيضاً ضعيف ، للفرق الواضح بين التوكيل والتبرّع ، فإنّ فعل الوكيل فعل الموكّل بنفسه ومستند إليه حقيقةً ومن غير أية عناية ، لعدم الفرق في صحّة الإسناد بين المباشرة والتسبيب فيما إذا كان الفعل قابلا للتوكيل ، كما في الاُمور الاعتـباريّة وبعض التكـوينيّة حسبما مرّ ، فالبيع أو الهبة أو الطلاق الصادر من الوكيل مستندٌ إلى الموكّل حقيقةً ، فبيعه بيعه ، كما أنّ قبضه قبضه وعطاؤه عطاؤه بالسـيرة العقلائية ، ومن ثمّ لو وكّل أحداً في قبض مالـه من الدين برئت ذمّة المدين بمجرّد الدفع إلى الوكيل وإن تلف المال ولم يصل إلى الموكّل ، لأ نّه بأدائه إلى الوكيل قد أدّاه إلى الموكّل حقيقة . وعليه ، فلو كان المكلّف مأموراً ببيع الدار ـ مثلا ـ أو بالعتق أو بالإطعام ونحو ذلك ممّا يقبل
|