الجهة الثالثة : في بيان خصوصيات الجهل والنسيان .
أمّا النسيان ، فالظاهر أ نّه أعم من نسيان الحكم وموضوعه ، لاطلاق النص ، وإن أبيت إلاّ عن انصراف النص إلى الثاني فيكفي اندراج الأول في قوله (عليه السلام) «لا يدري» (1) فانّ ناسي الحكم جاهل فعلاً وإن كان منشأ جهله هو النسيان .
وأمّا الجهل ، فالمتيقن منه الجاهل المركب الغافل بالمرة ، وكذا الجاهل بالحكم عن قصور وعذر وإن كان ملتفتاً ، كمن كان نظره أو نظر مقلده الجهر في مورد ثم انكشف الخلاف ، بل إنّ هذا كالنسيان مشمول لحديث لا تعاد بناءً على ما هو الصحيح من شمول الحديث لمثل هذا الجهل ، ويلحقه المقصّر إذا كان غافلاً حين العمل كأكثر العوام ، إذ يصدق في حقه أ نّه لا يدري ، فلا وجه لدعوى انصراف النص عنه .
وأمّا الجاهل المقصّر المتردد المتمكن من الفحص والسؤال مع تمشّي قصد القربة منه ، كما لو أتى به بقصد الرجاء ، فقد ذكروا أنه أيضاً مشمول لاطلاق النص، لكنّه مشكل جدّاً كما تقدم، لانصرافه إلى مَن يصلي كما يصلي غيره معتقداً فراغ ذمته عن عهدة التكليف ، ويرى صحة عمله من دون حاجة إلى الاعادة وفي المقام ليس كذلك ، فانّ قاعدة الاشتغال تقضي بالاعادة وإن لم ينكشف الخلاف . وقد قلنا بمثل هذا في حديث لاتعاد ومنعنا عن شموله للمتردد الذي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في صحيحة زرارة المتقدمة في ص 372 .
ــ[395]ــ
لايعتقد عدم الاعادة، لاختصاصه بمن يرى عدمها والاجتزاء به في مقام الامتثال كما لا يخفى .
وأولى بالاشـكال أو مثله ، ما لو كان جهله في التطبيق لا في أصل الحكم كما لو علم إجمالاً بوجوب الجهر في صلاة الصبح أو الظهر فتخيل أنّ مورده الظهر فصلاها جهراً ، فانّه لا يعتقد صحة ما صدر منه ولا يراه مجزئاً ، لقضاء العقل بلزوم الاعادة ، عملاً بالعلم الاجمالي وقاعدة الاشتغال ، وقد عرفت أنّ النص منصرف عن مثل ذلك فلا يشمل الجهل بالتطبيق فتدبر جيداً .
نعم ، لو كان جاهلاً بمعنى الجهر والاخفات فأتى ببعض مراتب الاخفات زاعماً أ نّه جهر أو بالعكس ، فالظاهر الصحة ، لصدق أ نّه لا يدري .
هذا كله فيما إذا كان الالتفات بعد الفراغ من الصلاة ، أو بعد الدخول في الركوع بحيث جاوز محل التدارك ، وأمّا إذا كان قبله فسيأتي الكلام عليه .
الجهة الرابعة : إذا أخلّ بالجهر أو الاخفات وتذكر أثناء القراءة أو قبل الدخول في الركوع ، فهل هو محكوم بالصحة أيضاً ويشمله النص ؟
المشهور ذلك للاطلاق . وقد يقال : بانصراف النص عنه ، لظهور قوله (عليه السلام) : «فلا شيء عليه وقد تمت صلاته» (1) فيما إذا مضى وتجاوز المحل بحيث لا يمكن التدارك إلاّ باعادة الصلاة ، وأنّ الاعادة غير واجبة في صورة عدم العمد ، وفي المقام لا حاجة إلى الاعادة بعد التمكن من تدارك القراءة على ما هي عليها لعدم تجاوز المحل ، فالنص لا يشمل هذا الفرض ومقتضى القاعدة وجوب التدارك .
لكن الظاهر الصحة وعدم الحاجة إلى الاعادة ، أمّا بناءً على القول بوجوب الجهر أو الاخفات في الصلاة مستقلاًّ ـ غايته أنّ ظرفهما القراءة من دون أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 6 : 86 / أبواب القراءة في الصلاة ب 26 ح 1 .
ــ[396]ــ
يكونا شرطاً في صحتها ومعتبراً فيها ـ فظاهر ، لعدم امكان التدارك ، إذ القراءة قد وقعت على صفة الصحة ، لعدم خلل فيها في نفسها على الفرض فقد تحقق الجزء وسقط أمره ، فلو أعادها فليست هي من أجزاء الصلاة ، ومحل الجهر أو الاخفات هي القراءة الواجبة في الصلاة المعدودة من أجزائها ، فلا سبيل للتدارك بعدئذ لمضي المحل كما هو واضح .
لكن الظاهر فساد المبنى وأ نّهما معتبران في القراءة شرطاً لا مستقلاًّ ، بل إنّ الحال كذلك في كل ما هو معتبر في الصلاة، فانّ الجميع معتبر على وجه الشرطية كما هو مقتضى فرض الارتباطية الملحوظة بين الأجزاء والشرائط ، فالقراءة الواجبة المعدودة من الأجزاء هي المسبوقة بالتكبير والملحوقة بالركوع والمقارنة للجهر أو الاخفات ، وكذا الستر والاسـتقبال ونحوهما ، فالفاقدة لشيء منها لا تكون جزءاً ، فانّ فرض الارتباطية تلازم الشرطية وتنافي الاستقلالية كما لا يخفى .
وعليه فالقراءة الفاقدة للجهر مثلاً المعتبر فيها ليست بجزء، فوجودها كالعدم فمحل التدارك باق ما لم يركع ، ومقتضى القاعدة لزوم التدارك ، فلو قلنا بشمول النص له وأنّ الجهر والاخفات شرط واقعي معتبر في القراءة لزمه الاعادة لبقاء المحل .
لكن الأقوى مع ذلك الصحة ، لقصور المقتضي في دليل الاشتراط عن الشمول لذلك ، فانّ الدليل منحصر في صحيحة زرارة كما تقـدّم (1) ، وهي لا تدل على أكثر من اعتبار الجهر والاخفات بالنسبة إلى خصوص العالم العامد وقوله (عليه السلام) : «فان فعل ذلك ناسـياً ... » إلخ بيان لمفهوم الشرطية الاُولى فالمدار في وجوب الاعادة على العمد ، وحيث لا تعمّد في مفروض الكلام فلا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 372 .
|