وقد استدل بها صاحب المدارك (2) على عدم الوجوب ، وبها رفع اليد عن الصحيحتين المتقدمتين وحملهما على الاستحباب ، وقال إنّها أظهر سنداً ودلالة فلا وجه لحملها على التقية، بل مقتضى الجمع العرفي بينها وبين تينك الصحيحتين الحمل على الاستحباب كما اختاره المرتضى (قدس سره) .
وأجاب عنها المتأخرون: باعراض الأصحاب عنها، فليست بحجة في نفسها حتى تصلح للمعارضة . وهذا الجواب كما ترى لا يتم على مسلكنا من عدم قادحية الاعراض .
فيبقى الكلام في وجه الجمع بعد البناء على حجيتها في نفسها ، وهل ذلك بالحمل على الاستحباب كما صنعه صاحب المدارك ؟
الظاهر لا ، لتضمن الصحيحتين المتقدمتين الأمر بالاعادة منطوقاً ، ومفهوماً ـ على وجه ـ وقد ذكرنا غير مرّة أ نّه ليس حكماً تكليفياً وإنّما هو إرشاد إلى الفساد وعدم سقوط الأمر الأوّل ، فوجوب الاعادة بحكم العقل ، وواضح أ نّه لا معنى لاستحباب الفساد . فالصحيحتان غير قابلتين للحمل على الاستحباب بل هما كالصريح في الوجوب .
ومن ذلك تعرف أنّ ما ذكره في المدارك من أنّ صحيحة علي بن جعفر أقوى دلالة غير واضح . بل هما متكافئتان في ميزان الدلالة فكما أنّ هذه
ــــــــــــــ (2) المدارك 3 : 357 .
ــ[374]ــ
صريحة في الجواز ، فكذلك هما صريحتان في الوجوب كما عرفت .
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أ نّها أقوى سنداً فلم يتضح وجهه أيضاً، وقد اعتذر عنه في الحدائق بأ نّه لم يلاحظ إلاّ طريق الشيخ وهو كما ذكره ، ولم يقف على طريق الصدوق الذي هو في أعلى مراتب الصحة (1) .
وفيه : أنّ طريق الشيخ إلى حريز أيضاً صحيح كطريق الصدوق، فالانصاف أ نّهما متكافئتان سنداً ودلالة ، فالأقوائية ممنوعة مطلقاً ، فهذا الجمع ساقط .
فلا بدّ من ملاحظة الترجيح بعد استقرار المعارضة وامتناع الجمع الدلالي وحيث إنّ صحيحة علي بن جعفر موافقة للعامة ، لأ نّهم لا يرون وجوب الجهر أبداً (2) ، فلا مناص من حملها على التقية كما صنعه الشيخ (3) فتطرح ويكون الترجيح مع تينك الصحيحتين المخالفتين للعامّة ، فيتعـيّن العمل بهما كما عليه المشهور .
وأمّا ما ذكره في المدارك من ترجيح صحيحة علي بن جعفر لموافقتها مع الأصل والكتاب فلم يظهر وجهه . أمّا الأصل فهو وإن كان يقتضي الجواز لكنه لا أثر له بعد قيام الدليل على الوجوب ، وهما الصحيحتان بل الصحاح الثلاث باعتبار رواية إحداهما بطريقين كما عرفت . على أنّ موافقة الأصل ليست من المرجحات ، فانّ الأصل مرجع لا مرجّح كما ذكر في محله .
وأمّا الكتاب فليس فيه ما يرتبط بالمقام عدا قوله تعالى: (وَلاتَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً )(4) وإذ من الضروري عدم خلوّ القراءة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحدائق 8 : 131 .
(2) المجموع 3 : 389 ، مغني المحتاج 1 : 162 .
(3) التهذيب 2 : 162 .
(4) الإسراء 17 : 110 .
ــ[375]ــ
عن الجهر أو الاخفات ، وعدم ثبوت الواسطة بينهما حتى يؤمر بها وينهى عنهما فهذه قرينة قطعية ـ مضافاً إلى الروايات الورادة في تفسير الآية المباركة ـ على أنّ المراد عدم الافراط في الجهر كالمؤذّن ، وعدم التفريط في الاخفات بحيث يكون مجرد تحريك الشفتين ولا يسمع حتى نفسه ما يقول ، فلا دلالة في الآية على حكم الجهر والاخفات وجوباً أو جوازاً ، فلا ينافي ذلك وجوب الجهر في بعض الموارد إذا ثبت من الخارج .
وكيف كان ، فمقتضى قواعد الترجيح في المقام ليس إلاّ الحمل على التقية كما عرفت .
نعم، ربما يناقش في دلالة الصحيحتين كما عن صاحب الذخيرة(1) من وجهين: أحدهما : أنّ المروي في بعض النسـخ «نقص» بالصـاد المهملة ، الدال على نقصان الثواب الملازم للاستحباب لا «نقض» كي يقتضي البطلان .
ثانيهما : أنّ كلمة «ينبغي» ظاهرة في الاستحباب ولاتناسب الوجوب وكلاهما ليس بشيء ، أما الأوّل فيردّه أوّلاً : أنّ الموجـود في جميع كتب الروايات كما قيل(2) «نقض» بالضاد المعجمة ، ولم ينقل «نقص» إلاّ عن بعض الكتب الفقهية ولا اعتبار بالرواية ما لم تؤخذ من مصدرها من كتب الحديث .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الذخيرة : 274 السطر 22 .
(2) لكنه معارض بما عن منتقى الجمان 2 : 12 من أ نّه لم ينقل ضبطها بالمعجمة ، وكيف ما كان ، فقد ذكر في هامش الاستبصار ج 1 ص 313 طبع نجف أنّ في بعض نسخ الكتاب «نقص» بالمهملة ، وفي البحار 82 : 77 بعد نقل صحيحة زرارة عن الصدوق قال : وفي بعض النسخ «نقص» بالمهملة ، وفي بعضها بالمعجمة ، وظاهر كلامه اختلاف نسخ الفقيه في ذلك .
ومنه تعرف أنّ المهملة منقولة عن بعض نسخ الكتب الحديثية أيضاً ، ولا تختص بالفقهية كما اُفيد في المتن .
ــ[376]ــ
وثانياً : لو سلّم فلا تضر بالدلالة ، إذ النقص في مقابل التمام المذكور في ذيل الصحيحة ، فمعناه البطلان كما يدل عليه قوله : «وعليه الاعادة» .
وأمّا الثاني ففيه أوّلاً : أنّ كلمة لا ينبغي ظاهرة في عدم الجواز ، وأ نّه لا يتيسر كما ذكرناه مراراً، فانّه الموافق لمعناه اللغوي، والاستعمالات القرآنية وغيرها على ذلك كما في قوله تعالى : (لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ )(1) أي لا يتيسر لها ، لا أ نّه لا يليق .
وثانياً : مع الغض عن ذلك فهذه الكلمة واقعة في كلام السائل والاستدلال إنّما هو بكلام الإمام (عليه السلام) المصرّح بأنّ عليه الاعادة الظاهرة في البطلان .
والمتحصل من جميع ما قدمناه : لزوم العمل بالصحيحتين ، وحمل صحيحة ابن جعفر على التقية . هذا مع تسليم دلالة هذه الصحيحة وإلاّ فللمناقشة فيها مجال ، نظراً إلى أنّ الظاهر من قوله «يصلي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة» أنّ المفروض في مورد السؤال أنّ القراءة جهرية ، إمّا على وجه الوجوب أو الاستحباب ، وعلى أيّ تقدير فكون القراءة جهرية أمر مفروض مفروغ عنه ومع هذا فأيّ معنى لقوله ، هل عليه أن لا يجهر ، فانّه لا موقع لهذا السؤال بعد ذاك الفرض . فلا مناص من أن يكون السؤال ناظراً إلى غير القراءة من سائر الأذكار كالتشهد وذكر الركوع والسجود ونحوهما ، وأ نّه هل يجب عليه أن لا يجهر في هذه الأذكار في صلاة يجهر منها بالقراءة أو لا ؟
وعليه فالصحيحة أجنبية عمّا نحن فيه بالكلية ، فلا موضوع للمعارضة كي يتصدى للعلاج فليتأمل .
ويؤيد ما ذكرناه : أنّ لعلي بن جعفر نفسه رواية اُخرى سأل فيها عن حكم هذه الأذكار من حيث الجهر والاخفات ، فانّه يقرب دعوى كون السؤال في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يس 36 : 40 .
ــ[377]ــ
هذه الصحيحة أيضاً مسوقاً لذلك ، قال : «سألته عن الرجل هل يجهر بالتشهد والقول في الركوع والسجود والقنوت ؟ قال : إن شاء جهر وإن شاء لم يجهر» (1) ورواها أيضاً في الباب العشرين من أبواب القنوت الحديث الثاني (2) ، لكن بتبديل كلمة «هل» بكلمة «أن» وهو غلط .
ونحوه أيضاً : صحيحة علي بن يقطين قال : «سألت أبا الحسن الماضي (عليه السلام) عن الرجل هل يصلح له أن يجهر بالتشهد والقول في الركوع والسجود والقنوت ، فقال : إن شاء جهر وإن شاء لم يجهر» (3) . وقد ذكر في الجواهر (4) هذا المتن وأسنده إلى علي بن جعفر مع أ نّه لابن يقطين، والمتن السابق لعلي بن جعفر كما ذكرناه ، فألحق أحد المتنـين بالسند الآخر وهذه غفلة منه (قدس سره) نشأت من ذكر الخبرين متوالياً في الوسائل ، وكيف كان فالمطلب واحد والأمر سهل .
وأمّا ما قيل في صحيحة علي بن جعفر السابقة من أنّ بعض النسخ(5) «هل له أن لايجهر» لا «هل عليه»، فيتجه السؤال ويندفع الاشكال، ففيه: أ نّها مرويّة في جميع كتب الحديث بلفظ «عليه» لا «له» ولم تنقل كذلك إلاّ عن بعض الكتب الفقهية ولا عبرة بها . على أ نّه لا أقل من احتمال ذلك ، فتسقط عن الاستدلال وصلاحية المعارضة لعدم العلم بصحة النسخة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 6 : 332 / أبواب الركوع ب 25 ح 1 .
(2) ، (3) الوسائل 6 : 290 / أبواب القنوت ب 20 ح 2 ، 1 .
(4) الجواهر 9 : 369 .
(5) وهناك نسختان اُخريان ، إحداهما : ما في قرب الإسناد [ 205 / 796 ] وهي «هل عليه أن يجهر» بحذف لا . ثانيهما : ما عن بعض نسخ الاستبصار على ما في جامع الأحاديث 5: 340 / 7928 وفيها «هل يجوز عليه أن لا يجهر». وبناءً عليهما فالسؤال والجواب منسجمان والمعنى واضح ولا إشكال .
ــ[378]ــ
وأمّا ما يقال من احتمال قراءة همزة أن في قوله «هل عليه ان لايجهر» مكسورة والمعنى هل عليه شيء إن لم يجهر بالقراءة ، فعجيب ، أوّلاً : أنّ لازمه تقدير كلمة شيء ، والتقدير على خلاف الأصل . وثانياً : أنّ اللازم حينئذ ذكر كلمة «لم» الجازمة بدل «لا» النافية كما لا يخفى (1) . ــــــــــــ
(1) لكنه ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى : (إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللهُ ) [ التوبة 9 : 40 ]وقوله تعالى (إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ في الأرضِ وفَسادٌ كَبِيرٌ ) [ الأنفال 8 : 73 ] .
|